أصل نشأة اللغة وأشهر النظريات فى ذلك

,

لقد شغلت قضية نشأة اللغة الإنسانية المفكرين على مر العصور، وتصدى للبحث عنها كثير من العلماء والفلاسفة والمتكلمين واللغويين. ولقد بذلت جهود كثيرة وأجريت تجارب متعددة لكشف هذه القضية، فلم يجمعوا على قول واحد بل ذهبوا فى البحث مذاهب شتى وتوصلوا إلى نظريات عديدة وأشهرها أربع نظريات هى :
1.   نظرية التوقيف والإلهام        2. نظرية التواضع والإصطلاح
3. نظرية التقليد والمحاكاة         4. نظرية الغريزة الكلامية

نبذة موجزة عن النظريات الأربع :
1. نظرية التوقيف والإلهام :
 وخلاصة هذه النظرية عند القائلين بها أن اللغة الإنسانية إلهام و وحى من الله عز و جل لايَدَ للإنسان فى وضعها فهو أعجز من ذلك فهى إذا توقيفية لامجال لللاجتهاد فيها. ولهذه النظرية أنصارها منذ أقدم العصور، فهى تنسب للفيلسوف اليونانى (هيرالكيت) 480 قبل م. ومال إليها بعض المحدسين الأب الفرنسى (لامى) 1711م. وقد اعتمدغير المسلمين على أدلة نقلية، فقد ورد فى التوراة أن الله تعالى خلق جميع الحيوانات والطيور ثم عرضها على آدم عليه السلام ليرى كيف يسميها، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة، وطيور السماء، وذوات العقول.
وقد قال بهذه النظرية غر قليل من علماء المسلمين، ومنهم ابن فارس حيث قال رحم الله: (أقول: إن اللغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه :
 (وَعَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ كُلَّهَا).
فان ابن عباس يقول : علم الأسماء كلها. وهذه هى التى يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشبه ذلك من الأمم وغيرها.
أما ابن جنى فقد عرض هذه النظرية ولم يجزم بها كابن فارس، بل تردد فيها هو وشيخه أبو على الفارسى بين التوقيف والإلهام، والقول بالواضعة والاصطلاح.[1]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فى معرض حديث له عن اختلاف العلماء فى هذه المسألة من الفقهاء وأهل الحديث و الأصول. وحصر الخلاف فى هذه المسألة بالقول بالتوقيف، والاصطلاح وما تركب منهما، قال رحم الله : فقال قوم : إنها توقية وهو قول أبى بكر عبد العزيز والشيخ أتى محمد المقدسى، وطوائف من أصحاب الإمام أحمد وهو قول الأشعرى وابن فروك وغيرهما.
  وقال قوم : بعضها توقيفى وبعضها اصطلاحى، منهم ابن عقيل وغيره. وجمع السيوطى كدأبه فى كتابه المزهر : آراء القائلين بتلك النظرية، أعنى التوقيف والإلهام كابن فارس وابن جنى مع تردده فى ذلك، ثم أورد أقوال الأصوليين الذى يرون هذا الرأي وأورد حججهم والنصوص التى استدلوابها الى الآية الكريمة السابقة، حيث استدلوا بقوله تعالى ( إِنَّ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا).
وذلك يقتضى كون الباقى توقيفية، وبقوله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السِّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ).
ويلحظ أن هذه النظرية تعتمد على النصوص النقلية، كما أنها لاتخلو من اعتراضات وقد رد عليهم المحتجون بردود منها :
1. أن النص التوراة يضعف دليلهم وأنه حجة عليهم لا لهم لأن فيهم إسعاراً بأن آدم عليه السلام هو الذى وضع السماء.
2. أن الآية التى احتج بها علماء المسلمين ليست دليلا قاطعاً، فقد اختلف المفسرونفى المراد بالأسماء. وابن فارس نفسه ساق بعض أقوالهم كما مر.
3. أنه لو كانت اللغة توقيفية لما جازا لنا أن ندخل فيها شيئاً، ألا ترى إلى لغتنا العربية اليوم ونحن ندخل فيها من مصطلاحات العلوم والفنون الشىء الكثير؟ ألا ترى أننا ننقل دلالات بعض الألفاظ كالسيارة؟ إن حدوث الترادف والاشتراك والتضاد فى اللغة لدليل على أن اللغة ليس لها توقيفيا من الله تعالى.
وبهذا وغير يتبين أن الأدلة المُساقة لاتنهض بهذه النظرية، ولا تقوى على الوقوف فى وجه الاعتراضات.
2. نظرية التواضع والاصطلاح:
 أو يقال: المواضعة، وتتلحص هذه النظرية فى أن اللغة مواضعة وانتفاق بين الناس بحيث يصطلحون على كذا وكذا من الألفاظ و ارتجلت ألفاظها ارتجالا.
وقد قال هذه النظرية الفيلسوف اليونانى (ديموكرت) فى القرن الخامس قبل الميلاد، كما مال إليها بعض الفلاسفة الإنجليز.و أرسطو والمعتزلة وقال بها من المحدثين أيضا : آدم سميث الانجليزي.
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مصروراً هذه النظرية : (أن قوما اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا، وهذا بكذا، ويجعل هذه عاماً فى جميع اللغات. وهذا القول لا نعرف أحداً من المسلمين قاله قبل أبى هاشم الجبائى. وقد صور ابن جنى هذه النظرية بقوله : وذلك أنهم ذهبوا أن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة.
قالوا : وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سمةً ولفظاً إذا ذكرعرف به ما مسماه، ليمتاز عن غيره وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين.
وبعد أن وضح ذلك ذكر أن التواضع يمكن أن ينقل إلى لغة أخرى، وجعل ما يشاهد من اختراع الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء : كالنجار والصوائع والحائك دليلا على هذ الرأى.
هذا وقد اعترض على هذه النظرية باعتراض منها :
1.   أن التواضع يحتاج إلى لغة سابقة يُتفاهم بها.
2.   أنه لا يكون حكماء يتواضعون بدون لغة، فهذه النظرية إذاً لاتحل المشكلة ولا تخلو من المآخذ.
3.   أن هذه القول مجرد دعوى تفتقر إلى دليل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (فلا يمكن لأحد أن ينقل من العرب، بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فواضعوا هذه الأسماء الموجودة فى اللغة، ثم استعملوها بعد  الوضع.
فإن ادعى مدعٍ أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس.[2]
3. نظرية المحاكاة والتقليد :
 وتتلحص هذه النظرية بأن نشأة اللغة بدأت محاكاةً للأصوات الطبيعية، وتقليدا للأصوات المسموعة من الحيوانات والأشجار، وصوت الرعد وغيره، ثم تطورت الألفاظ الدالة على المحاكاة ، وارتقت بفعل ارتقاء العقلية الانسانية وتقدم الحضارة .
فال ابن جنى رحمه الله (وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات إنما هو من الأصوات المسموعات كدوى الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبى ونحو ذلك ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندى وجه صالح ومذهب متقبل.[3]
وإلى هذه النظرية يميل كثير من الباحثين المعاصرين، ويرون أنها تساير طبيعة الأشياء التى تبدو بسيطة ثم تنمو وتتطور، فالغة من منطلق هذه النظرية بدأت تقليداً لأصوات الطبيعة، وقد يكون المتكلمون استخدموا مع ذلك التعبيرات والإشارات، ثم استُغنى عن ذلك فيما بعد.
واستد هؤلاء أيضاً إلى لغة الطفل التى تبدأ تقليداً، ثم تنمو وتستقيم وأن كثيرا من الأمم البدائية يستحدمون الإشارات اليدوية، والجسمية للمساعدة فى التعبير.
ولقد وجهت تقودٌ واعتراضات على هذه النظرية، ومن ذلك :
1.   أنها تنزل بالإنسان إلى ما هو أقل منه، فليس من المعقول عند المعترضين- أن يقلد الإنسان صوت الحيوان والأصوات المسموعة الأخرى.
2.   أن اللغات الراهنة لاتشتمل إلى قدر ضئيل من الكلمات التى تتضحفيها بين اللفظ والمعنى.
3.   أن كثيرا من الأمم البدائية يتكلمون بلغات لايظهر فيها أثر المحاكاة والتقليد للطبيعة.
4. نظرية الغريزة الكلامية :
 وهى احدى النظريات الحديثة، وترى أن الإنسان مزود بغريزة خاصة كانت تحمل كل إنسان على تعبير عن كل مُدْرَكٍ حسيٍّ، أو معنوى بكلمة خاصةولذا اتحدت المفردات والتعابير عند الإنسان الأول، وأنه بعد نشأة اللغة لم يستحدم الإسان هذه الغريزة فانقرضت. وممن قال بهذه النظرية الفرنسى (رينان) ت 1890م والألمانى (مولر) ت 1900م وهما من أشهر علماء اللغة الأروبيين.
وقد وجهت إليهما اعتراضات منها :
1.   أن المعانى الكلية المعنوية تدل على رقى لايصدق معه أن تكون هذه هى اللغة الإنسانية الأولى التى يفترض أن تكون بسيطة، فهذ الأصول مرحلة لغوية متقدمة.
2.   أن الغريزة الكلامية لم يعرف كيف استُحدمت أول مرة للتعبير عن حاجة الإنسان فهذ هو الموضوع الذى تدور حوله المشكلة كلها.
هذه هى أشهر النظريات حول نشأة اللغة، وهناك نظريات أخرى حاولت حل هذه المشكلة ولكنها لم تصل بالموضوع إلى تهاية يوقف عندها.
هل يمكن التوفيق بين النظريات السابقة ؟
بعد عرض النظريات الأربع يتبين أن الباحثين فيها قد استنفذوا طرق البحث الممكنة من اعتماد على الأدلة النقلية والعقلية والبحث فى الواقع اللغوى بمختلف إمكاناته. ومع ذلك لَمْ يُتَوَصَّل إلى رأى قاطع فى تلك المسألة.
وأكبر ما يؤخذ على من بحث تلك القضية هو التعصب لرأى أو نظرية دون غيرها. ومن عيوب البحث فيها فيها أن النقد قد يصل إلى درجة التهكم.
ولو حاول العلماء والباحثون فى هذه المسألة أن يأخذوا من كل نظرية بجانب لربما كان للمشكلة صورة أوضح وأقرب للواقع. ولنتأمل من ذلك التقل الذى أورده السيوطى فى المزهر حيث يقول ( وزعم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينى أن القدر يدعو به الإنشان غيره الى التواضع يثبت توقيفا، وبعضه اصطلاحا والكل ممكن)[4]
ففى هذا الرأى محاولة للتوفيق بين قولين هما أشهر الأقوال فى المسألة وهما القول بالتوفيق والإلهام والقول بالاصطلاح المواضعة.
وههنا محاولة التوفيق بينهما : إذ كل منهما يحتمل شيئاً من الصواب ويتوجه إلبه اعتراض، فلو جمعنا النظريات وأخدنا الجانب الإيجابى من ل منهما دون إغفال لنظرية أخرى لربما أمكن الوصول إلى تصور أفضل.
فمما لاشك فيه أن الله تعالى علم آدم عليه السلام الأسماء، ولو تركنا البحث والخلاف فى معنى الأسماء، وتصورنا قدرا من اللغة تعلمه آدم وأولاده من بعده ثم ذريتهم، وأضفنا إلى ذلك أن الله عز وجل قد وهب الإنسان قدرة التعبير أما فى تفسه، فذلك الجهاز النسمى بجهاز النطق، وذلك العقل المدبر المحرك للإنسان قادران على التعبير عما يستجد من أمور إما عن طريق التقليد والمحاكاة كما نرى فى محاولات الأطفال، وإما عن طريق الاصطلاح كما يحدث كلما جدًّ جديد فى الحياة وُضع له الاصطلاح المناسب. وبهذا يمكن الجمع بين النظريات جميعا فى تصور نشأة اللغة الإنسانية.

المرجع
محمد بن إبراهيم الحمد، فقه اللغة : مفهومه، موضوعه، قضاياه، الطبعة الأولى، دار ابن خزيمة، الرياض، 2005م.
أبى الفتح عثمان بن جنى، الخصائص، الجزء الأول، دار الكتب المصرية، مصر.
تقى الدين أحمد بن تيمية الحرانى، مجموعة الفتاوى، المجلد الثامن، مكتبة التوفيقية.




[1] أبى الفتح عثمان بن جنى، الخصائص، الجزء الأول، دار الكتب المصرية، مصر، ص. 94-99
[2] تقى الدين أحمد بن تيمية الحرانى، مجموعة الفتاوى، المجلد الثامن، مكتبة التوفيقية 7/62
[3]أبى الفتح عثمان بن جنى، الخصائص، الجزء الأول، دار الكتب المصرية، مصر، ص.  98-99 .
[4] المزهر، 1/20

0 komentar:

Posting Komentar