التصوف فى العصر والحاضر

,

مرّ التصوف فى الإسلام بمراحل متعددة, وتواردت عليه ظروف مختلفة واتخذ تبعاً لكلّ مرحلة ووفقاً لمّا مرّ به من ظروف مفاهيم متعددة و لذالك كثرت تعريفاته وكل تعريف منها قد يشير إلى بعض جوانبه دون البعض الآخر, ولكن يظل هناك أساس واحد للتصوف لا خلاف عليه وهو على أنه أخلاقيات مستمدة من الإسلام.
ولعلّ هذا هو ما أشار  إليه إبن القيم فى " مدارج السالكين" قائلاً : واجتمعت كلمة الناطقين فى هذا العلم  على أن التصوف هو الخلق. وعبر عنه الكتانى بقوله : التصوف خلق, فمن زاد عليك فى الخلق زاد
عليك فى الصفاء.

التصوف اذن فى أساسه خلق, وهو بهذا الاعتبار روح الإسلام لأن أحكام الإسلام كلها مردودة الى أساس أخلاقى. فصار التصوف فى الإسلام كعلم ديني يختص بجانب الأخلاق والسلوك وهو روح الإسلام.[1]و هذ الروح يُحتاج حتى إلى عصرنا اليوم.
نظرة اجمالية إلى مراحل تطور التصوف
المرحلة الأولى في نشأة التصوف هى الذى تسمّى بمرحلة الزهد, وهى واقعة فى القرنين الأوّل والثانى الهجرين, فقد كان هناك أفراد من المسلمين أقبلوا على العبادة بأدعية و قربات, و كانت لهم طريقة زهدية فى الحياة تتصل بالمأ كل والملبس والمسكن, وقد أرادوا العمل من أجل الآخرة, فأثاروا للأنفسهم هذا النوع من الحياة والسلوك, ونضرب لأولئك مثلاً الحسن البصرى المتوفّى سنة 110 ه, ورا بعة العدويّة المتوفّى سنة 185 ه.
و منذ القرن الثالث للهجرة نجد الصوفية و قد عنوابالكلام فى دقائِق أحوال النفس والسلوك, و غلب عليهم الطابع الأخلاقىّ فى علمهم و عملهم, فصار التصوّف على أيديهم علماً لأخلاق الدينيّة, وكانت مباحثهم الأخلا قيّة تدافعهم إلى التعمق فى الدراسة علم النفس الإنسانيّة ودقائق أحوال سلوكها, وكانت تقودهم أحياناً إلى الكلام فى المعرفة الذوقيّة وأداتها و منهجها, وإلى الكلام عن الذات الإلهية من حيث صلّتها بالإنسان صلّة الإنسان بها, وظهر الكلام فى الفناء الصوفى خصوصاً على اليد البسطامى, ونشأ من ذالك كلّه علم للصوفيّة يتميّز من علم الفقه من نا حية الموضوع والمنهج والغاية, له لغته الاصتلاحيّة الخاصّة التى لا يشارك الصوفية فيها غيرهم و يحتاج فهم مرامها إلى جهد غير قليل, وقد ظهر هذا العلم( وهو كما أشرنا من قبل يعتبر من علوم الشريعة) بعد ظهور التدوين كما يشير إليهم إبن خلدون قائلاً : فلمّا كتبت علوم ودوّنت, وألّف الفقهاء فى الفقه و أصوله والكلام و التفسير و غير ذالك, كتب الرجل من هذه الطارقة ( أى الصوفية)فى طريقهم. ومنهم من كتب فى الورع ومحاسبة النفسعلى الاقتداء فى الأخد و الترك كما فعله القشيرى فى الرسالة والسهروردى(البغدادى) فى كتاب "عوارف المعارف" فصار علم التصوّف فى الملّة علماً مدوّناً بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط,
و من ناحية أخرى نجد شسوخ التصوّف فى القرنين الثالث والرابع الهجرين, كالخنيد والسرىالسقطى و الخراج و غيرهم, يجمعون حوالهم المريدين من أجل تربيّتهم  فتكوّنت لأوّل مرة الطرق الصوفِية فى الإسلام التى كانت آنذاك بمثابة المدرس التى يتلقّى السالكون فيها آدب التوف علما و عملاً.
وكان هتاك فى القرن الثالث الهجرى أيضاً نوع من التصوّف يمثلهالحلاج الذى أعدم لمقالته فى الحلول سنة 309ه ويبدو أنّه كان متاثِّراً فيه بعناصر أجنبيّة عن الإسلام.
ثمّ جاء الإمام الغزالى فى القرن الخامس الهجرى فلم يقبل من التصوّف إلاّ ما كان متمشيّا تماماً مع الكتاب و السنّة, ورامياً إلى الزهد و التقشف و تهذيب النفس و إصلاح أخلاقها. وقد عمق الغزالى الكلام فى المعرفة الصوفية على النحو لم يشبق إليه, وحمل على مذاهب الفلاسفة والمعتزلة والباطنيّة, وانتهى به الأمر إلى ارساء قواعد نوع من التصوف معتدل يساير مذهب أهل السنّة والجماعة الكلامى, ويخالف التصوّف الحلاج و البسطامى فى الطابع.
ومنذ القرن السادسالهجرى أخذ نفوذ التصوّف السنّى فى العالم الإسلامى يزداد بتاثير عظم شخصيّة الغزالى.
وظهر صوفية كبار كونوا لانفسهم طرقاً لتربيّة المريدين منهم السيّد أحمد الرفاعى المتوفّى سنة570 ه, وسيد عبد القادر الجيلانى المتوفّى سنة 651 ه, ومن معتقد أنهما متأثران بتصوّف الغزالى.
ثمّ ظهر فى القرن السبع الهجرى شسوخ آخرون ساروا على نفس الطريق, أبرزهم أبو الحسن الشلذلى المتوفى سنة656 ه, وتلميذه أبو العبّاس المرسى المتوفّى سنة 676 ه,  و تلميذهما إبنعطاءالله السكندرى المتفّى سنة 709 ه, وهم أركان المدرسة الشاذليّة فى التصوف, و يعتبر تصوّفهم أيضاً امتداداً لتصوف الغزالى السنّى.
على أنّه منذالقرن السابع الهجرى أيضاً نجد مجموعة أخرى من شسوخ التصوف الذين مزجواتصوفهم بالفلسفه, فجاءت نظريتهم بين بين, لاهى تصوف خالص و لا هى فلسفة خالصة, نذكر من هؤلاء السهروردى المقتول صاحب "حكمة الاشراق" المتوفى سنة 549 ه, والشيخ اللأكبر محيى الدين بن عربى  المتوفى سنة 632 ه, وسلطان العاشقين الشاعر الصوفى المصرى عمر بن الفارض المتوفى سنة 632 ه, وعبد الحق بن سبعين المرسى المتوفى سنة669ه, ومن نحا نحوهم فى التصوف وواضح أنهم قد استفادوا من عديد من المصادر والآراء الأجنبية كالفلسفة اليونانية خصوصاً مذهب الأفلا طونية المحدثة, وقد قدم لنا أولئك الصوفية نظريات عميقة فى النفس والأخلاق و المعرفة و الوجود لها قيمتها من الناحيتين الفلسفية والتصوفية كما ان لها تأثيرها على من تلا هم من الصوفية المتاخرين.
وبظهور متفلسفة الصوفية الذين ذكرنا أصبح فى التصوف الإسلامى تياران : أحدهما سنى يمثله رجال التصوف المذكرون فى الرسالة القشيرى, و هم صوفية القرنين الثالث والرابع الهجرى خصوصاً, ثم الإمام الغزالى ثمّ من تبعهم من شيوخ الطرق الكبار, وكان التصوف هؤلآء جميعاً يغلب عليه الطابع الخلقى العملى, ولآخر فلسفى يمثله  من ذكرنا من متفلسفة الصوفية الذين مزجوا تصوفهم بالفلسفة. وقد أثار متفلسفة الصوفية فقهاءالمسلمين واشتدت الحملة عليهم لما ذهبوا إليه من القول بالوحدة الوجوديه و كات أبرز من حمل عليهم ابن تيمية المتفّى سنة 768 ه.
وهناك أمر هام نجب أن ننبح إليه وهو أن التصوف الإسلامى و إن كان قد تأثّر فى مراحل معينة من تطوّره بالفلسفة و أنظارها, واسطنع بعض اصطلا حاتها واصطبغ بصبغتها, الا أنه  من حيث نشأته الأولى إسلامى وقد أخطأ الكاثيرون من المشتشرقين الذين عنوا بدراسة التصوف الإسلامى.
ومن الملاخظ بعد هذا أن بعض متفلسفى الصوفية قد حاول تأسيس طرق, ولكنّ الطرق الذى أسسوها لم يكتب لها الاستمرار فى الوجود فى العالم الإسلامى لما أثير حول عقيدة مؤسسيها من شبهات, وذالك كالطريقة الاكبرية التى أسسها إبن العربى الملقب بالشيخ الأكبر, والطريقة السبعينية التى أسسها إبن سبعين المرسى. ولا ذالك الأمر بالنسبة للطرق الأخرى التى كان يغلب على دعاتها الاتجاه العملى التربوى كالطريقة الرفاعية والطريقة القادرية والطريقة الاحمدبة ( التى اسسها السيد أحمد البدوى) والطريقة البرهامية
( التى أسسها الشيخ ابراهيم الدسوقى) والطريقة الشا ذلية وما إليها فقد استمرت الى يومنا الحاضر.
على أنّه قد أصاب التصوّف فى عصوره المتأخرة (منذ القرن الثامن الهجرى تقريباً إلى العصر الحاضر) شيئ من التدهور, فا تجه  أصحابه إلى الشروح والتلخيصات لكتب المتقدمين, كما عنى أصحابه من الناحية العملية بضروب من الطقوس و الشكليّات أبعدتهم فى كثبر من الأحيان عن جوهر دعوتهم و كثر أتباع التصوف فى عصوره المتأخرة ولكن لم يظهر من بين هذه الكثرة شخصيّات الخا ما لشخصيات التصوف الأولى من مكانة روحية مرقومة, ولعل هذا كان راجاً إلى ما سيطر على العالم االإسلامى فى عصوره المتأخرة من رقود الفكرى ابان عصر العثما نين, و على كل حال فإن إتحراف بعض الصوفية فى بعض عصور التارخ لا ينهض دليلاً على فساد دعوتهم.[2]
بناء التصوف إلى الأخلاق فى عصرنا اليوم
ومع مرور الزمان وانقراض أدوار الصحابة والاتساع المسافة فى الفجوة الزمنية بين النبىّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين و خمود الجماعة الإيمانية التى أوقدت من شموع قلوب الصحابة, ثم بدأ يتسع الظلام الباطنى والأمراض القلبية على عالم القلوب, وانتشر تسلل الأخلاق السيئة والأهواء فى حدود النفوس الإنسانية. قام المشايخ الصوفية فى هذه الأحوال يفكرون هذه الأزمة الخطيرة التى نشأت فى قلوب المسلمين, وهى فكرة صعبة السبيل و شق الطريق الإسلاحى للتغلب على الأوضاع الدينية المتأزمة.[3]
و من المعلوم كان المسلمون اليوم يعانون جملة أزمات خطيرة التى لابد من العلاج و التدويه, فقد قال يوسف القرضاوى :
"إن المسلمين يعانون اليوم جملة أزمات خطيرة,  إذا لم يعالجوها فقد تحدد وجودهم و بقاءهم بوصفهم أمة متميزة, ذات رسالة حضارية للعالم, بوأها الله مكان الأستاذية و الشهادة على الناس, قال الله تعالى :
وكذالك جعلنا كم أمةً وسطاً لتكونوا شُهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً.[4] 
وأشد هذه الأزمات خطرا أزمتان : الأزمة الفكرية و الأزمة الأخلاقية, الأول تتعلق بعقول الأمة والثانية تتعلق بضمائرها, ولا للأمة ما لم تستقم عقولها و تحت ضمائرها."[5]
ومن أبرز مظاهر الأزمة الفكرية : سوء الفهم للإسلام الذى أصيب به كثير من أبناء الأمة, نتيجة لانتشار الجمود فى الفكر, والتقليد فى الفقه, والشكلية فى العقيدة والصورية فى العبادة والسلبية فى التصوف. فاتصوف هو أحد الوسيلة المعالجة أزمات خطيرة التي تعانين المسلمين. فقد قال المحاسبى فى كتاب"المحبة" :
"قد رانوا بأبصارهم بفضل ضياء الحكمة الإلهية. إلى المناطق التى تنمو فيها الأدوية. وقد علمهم الله كيف يفعل الدواء, ويبدو بشفاء قلوبهم, و أمرهم حينذاك بأن يواسوا قلوب المحزنين و الذين يتألمون."[6]
و يتضح من ذالك أن التصوف ليس مجرد إسم من أسماء الأدوية, او صفات صيدلية, بل هو علاج بدأ الطبيب المعالج فجربه على نفسه. والمسلمون اليوم فى حا جة إلى العلاج المسمى بالتصوف لأنّ قد وقعت فى هذا العصر العولمى الأزمة المحزنة لدى الأمة التى سببتها فكرة العصرانية. الفكرة التى تتفخر كثيرا بعظمة العلوم و التكنولوجيا. من أجل ذالك يحتاج الإنسان إلى التحليل للخروج منها.
الاحتتام
لا شكّ أنّ أساسا واحدا للتصوف لا خلاف عليه وهو على أنه أخلاقيات مستمدة من الإسلام هو ما أشار  الكتانى بقوله : التصوف خلق, فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى الصفاء. فقد وردت فى الفرآن الكريم آيات كثيرة تحث على مكارم الأخلاق, كالزهد والصبر والتوكل والرضا والمحبة واليقين والورع وما إليها, ممّا يندب إليه ل مسلم ليكمل إيمانه. وقد بين لنا القرآن الكريم أنّ الرسول صلى الله عليه و سلم هو الأسوة الحسنة لمن يريد التكمل بهذه الفضائل فى أرقى صوارها.[7]
ولكن الأمة اليوم أى فى العصر الحاضر قد وقعت فى العصر العولمى الذى فيه كثير من انحراف التفكير الإنسانى كالعلمانيّة و التعددية واللبراليّة والعصرانيّة, و ذالك التفكير يجعل الإنسا ن بعيد من ربّه, لأنهم يفكرون حياة الدنياوية فحسب, لا حياة فى الآخرة.
فالتصوف مهمة فى عصرنا الحاضر ليجعل الناس يعود إلى الفطرة, لأن أساس التصوف هو الأخلاقيات المستمدة إلى الإسلام, ومن هذا يتبيّن لنا أن التصوف فى الإسلام كعلم دينى يختص بجانب الأخلاق والسلوك, وهو روح الإسلام.[8] وإنّنا نستتيع أن نحل كل مشكلاتنا المعاصرة فى ضوء الاجتهاد الإسلامى صحيح, يسترشد بالأصول, ويستهدى بتراث السابقين, ويلتزم بالقرآن و صحيح السنة, ننظر إليها بعين مفتوحة, و لكته أيضاً يتظر إلى العصر وتيارته ومشكلاته بالعين الأخرى.[9]

المرجع
القرآن الكريم
التفتزانى, أبو الوفا الغنيمى, مدخل إلى التصوف الإسلامى, القاهرة, دار الثقافة للطباعة و النشر, 1979 م
على, سيد نور بن سيد, التصوف الشرعىّ الذى يجهل كثير من مدعية و منتقدية, الطبعة الأولى, بيروت, دار الكتب العلمية, 1421 م
القرضاوى, يوسف, الإسلام كما نؤمن به : ضوابط وملامح, الطبعة الأولى, القاهرة, نهضة مصر للطباعة والنشر و التوزيع,  1999 م
بدوى, عبد الرحمن, تاريخ التصوف الإسلامى من البداية حتى نهاية القرن الثانى, الطبعة الثانية, كويت, وكالة الطبوعات,   1978 م


1. د. أبو الوفا الغنيمى التفتزانى, مدخل إلى التصوف الإسلامى, دار الثقافة للطباعة و النشر, القاهرة, 1979,
  ص 11-12
2 . د. أبو الوفا الغنيمى التفتزانى, المرجع السابق, ص. 17-20
3. سيد نور بن سيد على, التصوف الشرعىّ الذى يجهل كثير من مدعية و منتقدية, الطبعة الأولى, دار الكتب العلمية, 1421 م,
   ص 6
4. سورة البقرة : 143
5. د. يوسف القرضاوى, الإسلام كما نؤمن به : ضوابط وملامح, الطبعة الأولى, القاهرة, نهضة مصر للطباعة والنشر و التوزيع,
  1999 م, ص 3
6. د. عبد الرحمن بدوى, تاريخ التصوف الإسلامى من البداية حتى نهاية القرن الثانى, الطبعة لثانية, كويت, وكالة الطبوعات,
   1978 م, ص. 23
7. د. أبو الوفا الغنيمى التفتزانى, المرجع السابق, ص. 12
8. د. أبو الوفا الغنيمى التفتزانى, المرجع السابق, ص. 16
9. د. يوسف القرضاوى, الرجع السابق, ص. 16

0 komentar:

Posting Komentar